ماركو نيكوف مصرى

[size=24]يبدو أن الفقراء لن يجدوا ناصرا لهم أبدا في هذا العالم..

فهذا عصر لا يعترف بالضعف أو الفقر.. إنما مفرداته هي القوة والهيمنة والنفوذ التي بالطبع تكفلها الثروة في مفهوم جديد لعصر جديد.. قديما كان من الممكن أن يتمتع فرد بنفوذ وسلطة دون أن يكون متمتعا بثروة ما، وقد أتته تلك السلطة من منصب له أو هيبة شخصية، ولكن عصرنا، بما أنه عصر تنقلب فيه كل الموازين فإن السبيل الوحيد للنفوذ هو الثروة.. بأي وسيلة أو طريقة مشروعة كانت أم غير مشروعة فهي تكفل لك سلطة وتأثيرا لا تستطيع تخيله.. هي تفتح لك كل الأبواب المغلقة بكل مرونة وتعطيك امتيازات عظيمة بمجرد التلويح بورق البنكنوت، وهذا ستلمسه في شتى نواحي الحياة حولك، وفي عدة مجالات حتى إن كانت تافهة أو عظيمة الشأن.

فبدءا من إنهائك أيا من حاجاتك في أي مصلحة حكومية.. ترى الأمور معقدة وتجد الروتين يكشر عن أنيابه مهددا بضياع أيام عدة حتى تتمكن من قضاء مصلحتك.. لكن إذا ما تم التلويح بأوراقك المالية المحببة فسترى وكأن المكان مسته عصا ساحر وسترى المهام تم إنجازها وبسرعة شديدة وبالطبع كلما كانت فئة الأوراق المالية أعلى زادت السرعة في الأداء! وسترى الإنجاز والمعاملة الحسنة تتناسب طرديا مع ثقل الجيب، وهذا ما يعانيه من كان حظهم سيئا ولم يثقلوا جيوبهم قبل خوض معركة الذهاب لإنجاز مصالحهم فهي وبكل بساطة.. لن تنجز.. وكان الله في عون من لا يجدون ما يثقلون به جيوبهم.. فحقا، لهم الله.

وترى الأمر نفسه واضحا بشدة في مجال الوظائف والتعيينات، خاصة لو كان الالتحاق بوظيفة في الشرطة أو الجيش، فمعروف أنها حكر على أبناء الجيوب الثقيلة فقط وممنوع حتى التفكير فيها لكل فقير أو حتى متوسط الحال للحفاظ على ماء وجهه ولأنه سيرفض فور رؤية بياناته الشخصية.

وهناك وظائف أخرى في القطاع الخاص تنأى بنفسها عن الفقراء حتى لو كانوا يمتلكون ملكات ومواهب كبيرة ومهاراتهم تفوق مهارات المتقدمين الآخرين الذي لا يملكون سوى ملكة واحدة وهي أن حظهم كان حسنا وكانوا أبناء الطبقة العليا، وهم لم يبذلوا أي جهد لاستحقاق الوظيفة أو المميزات الأخرى التي ترمى تحت أقدامهم والأبواب التي تفتحها جيوب عائلاتهم.

والأمثلة كثيرة.. وتزداد مع الوقت وتؤكد أن المال فعلا هو المتحكم في كل شيء وأصبح هو المحرك للأشخاص أيضا دون النظر إلى ما يحيط به من شبهات أو غيره فهذه الأمور لم تعد بذات أهميتها كما في ما مضى.. حقا فقراء هذا الزمن ليس لهم نصير سوى الله فالناس والحياة قد تدهسهم حتى لو رأوهم فسيتعامون عنهم.

ففي هذا العالم الذي يبدو كأنه يتبع فلسفة "نيتشه" العنصرية التي تنبذ كل ضعف أو فقر، وتجعل الفقراء والضعفاء لا مكان لهم في العالم، وهذه العنصرية انتقلت لكل المجالات فيما يبدو وحتى الكيمياء! نعم فلقد أثبتت الكيمياء أيضا عنصريتها وأحيانا طبقيتها!

وحتى لا تظنوا بعقلي الظنون فأنا لا أحمل ضغينة خاصة للكيمياء على الرغم من معادلاتها التي ستجعلني نزيلة في العباسية قريبا! إنما فعلا فلسفة "نيتشه" انتقلت لها أيضا! فهناك قاعدة في الكيمياء تعرف بقاعدة "ماركونيكوف" تشرح كيفية انتقال البروتونات من ذرة لأخرى وملخصها أن البروتونات تنتقل دائما للذرة الغنية بالبروتونات –أو ذرات الهيدروجين- حتى لو كانت الذرة التي ستمدها بها لا تملك سوى بروتون واحد! فهي ستمدها به أو على أقل تقدير لو كان هناك بروتون سيذهب لأحد منهما فهو سيذهب للذرة الأغنى بالبروتونات ويترك الأخرى التي تعاني فقرا كيميائيا! فنص القاعدة يقول: "الغني يزداد غنى والفقير يزداد فقرا".. أظن أن النص لا يحتاج إلى شرح فهو أوضح دليل على الطبقية التي استشرت في كل مجالاتنا حتى الكيمياء!

ويبدو أننا أصبحنا أناسا علميين حتى أدمنّا تطبيق قاعدة "ماركونيكوف" تطبيقا حرفيا وبشغف كدأب التلميذ المتفوق.. فندهس الفقراء ونمر من فوقهم دون حتى إلقاء النظر عليهم بعدها.. بل الأكثر ظلما أنهم مطالبون بالبذل والعطاء حتى لو كان عطاء آخر ما يمتلكون ليزدادوا فقرا ويزدادوا ضعفا وبالطبع يزدادوا نبذا من الحياة والعالم.

والمعمل الكيميائي هذا ما زال يفرخ المزيد من العنصرية ومفاعلاته الكيميائية تزداد حرارة وسخونة والوحيد الذي يحترق منها هو الفقير الذي لا ذنب له في فقره إنما ذنب من حرصوا على إبقائه فقيرا بل وزادوه فقرا وأضافوا خاصية جديدة وهي البؤس أحيانا.. لا بل ويطالبونه بالمزيد وإلا فلا مكان له!

ولا أعلم إلى متى سيستمر الغليان داخل الأنبوبة قبل أن تصل الحرارة إلى ذروتها فتنطلق المفاعلات الملتهبة وينفجر المعمل ليحرق الجميع؟

فإن لم ينتبه الكيميائي لما في معادلاته من خطأ وخطورة فسيتمادى للنهاية فيها حتى يفوت أوان إنقاذ الأمر ولن ينفع وقتها الذرات الغنية ثروتها الإلكترونية التي ستأتي النار عليها أيضا.. هذا إن لم ينتبه في الوقت الصحيح ويصلح معادلاته لتسير في طريقها السليم وتعطي نواتج سليمة..

فعلينا إذن ألا نتعامل مع الكيمياء بحسن نية كما في السابق.. فحقا كما قال "هنيدي" في العبارة الشهيرة.. "هي الكيميا كده غدارة!"

[/size]